يبدو أنه كلما دخل الإنسان عميقًا داخل حيز عمري معين فإنه يكتسب مناعة ما ضد عواقب أو ثمن انسلاخه عن الإجماع العام، أيا كان ذلك الإجماع، ليصبح أكثر حرية في المناورة وأقل خوفاً من الإفصاح عما يعتمر داخله وببساطة. يغيظه ويجعله يتشاجر مع شاشة الحاسوب النقال، وبما اننا في أجواء الإفصاح والبوح الداخلي فلا بد من الاعتراف أنه للأسف تعميم أرعن، فليس كل من يدخل داخل هذا الحيز العمري يصبح ملاكاً فاضحاً للحقائق ولزيف البشر، بل أن الكثيرين يتحولون إلى أعضاء في هيئات وأجسام تعمل على رسم حدود الإجماع الصارمة وتشكيل ملامح الوعي الجمعي الكاذب وممارسة العنف الأبستمولوجي تجاه حاشيتها لأهداف كثيرة ربما أهمها يتكاتب مع المعادلة الفوكيانية المعرفة\\القوة، بمعنى أن من يمتلك مفاتيح المعرفة ويشكل وعي الآخرين من خلال المنظومة المعرفية التي تعتمد على "الحقيقة" كما يريدها أن تكون فهو ببساطة يمتلك مقومات القوة التي تؤهله للحكم وحتى تشرعن له ذلك. المنظومة المعرفية الغربية لا تزال هي المرجعية التي تجعلنا جل الوقت نتعامل مع ذواتنا على أنها تابع ونتعامل مع جوهر وجودنا من خلال انعكاسه عبر مرآة "الغربي" الآخر بما يشبة الإعاقة النفسية المتوارثة أجيالاً بعد أجيال… حتى أنني أعتقد مبالغاً أن المولود في الحاضنة يخرج إلى هذا العالم مع شعور ناتج عن تركيبة حمضه النووي المار عبر سوائل أمه وأبيه، مفاده أن كل الأسرار المعرفية لما يراه تتواجد في مكان ما لم يولد هو فيه.
أما في الحالة الثقافية الفلسطينية فقد شاع في مرحلة "أوسلو" خطاب إشكالي متأزم لا زال يتفاعل حتى الآن وفي أحيان متباعدة وهو وبلغة سوقية " شوفوا كيف بسوقوا حالهن ...لازم نحنا كمان نفرض روايتنا" أو بكلمات أخرى ..أصبحت كل جملة تقال في ندوة أو في مؤتمر تبدأ بهم وتنتهي بنحن وكأن مركز العالم ومحوره مشغول بالمقارنة بين الخطاب الإسرائيلي وكيف تبدو إسرائيل في العالم وكيف تسوق حكايتها ومصداقية حكايتها وبين الخطاب الفلسطيني وكيف يبشر الفلسطينيون العالم بقدسية قضيتهم. إلى هنا لا مشكلة وخاصة إذا أدركنا الحالة الما بعد صدموية التي يعيشها الفلسطيني أنى تواجد، وخاصة مع إدراكه أنه تم نفيه وإقصاؤه عن ركب الحداثة والحضور على الخريطة ضمن كيان وطني له مطار وميناء وسفارات ومندوب\\ة في هيئة الأمم المتحدة وخاصة أن كياناً آخر قام بسرقة كل هذا...ولكن وهنا أطرح السؤال: من قال إن الحداثة المتمثلة بالدولة الوطنية نجحت عربياً أصلاً كي تكون هي كل ما يسعى له الفلسطيني كي يتحقق مادياً على الأرض؟
تحول الفلسطيني ضمن هوسه ورغبته بالسيادة الوطنية إلى انعكاس مشوه للإسرائيلي، بالضبط كما يقلّد الطفل أباه القامع ليشكل نسخة مضحكة ومثيرة للشفقة منه، إن الإصرار الفلسطيني على مستوى الوعي الجمعي أن يكون مرآة ورد فعل دائم وحضاري للدولة أو المنظومة القامعة يغفل حقيقة أن إسرائيل هي مستعمرة غربية في قلب الشرق الأوسط وأن فلسطين هي وجود أصلاني في قلب هذا الفضاء وكما قالت ناشطة إسرائيلية معادية للصهيونية في تعليق مبطن حول رفع العلم الفلسطيني في كل مناسبة (حتى في مظاهرة ضد قتل النساء) داخل حدود مناطق الـ 48 : كيف نريد تقويض الوطنية الإسرائيلية المتمثلة بالصهيونية ورموزها عبر إحلال رموز الوطنية الفلسطينية مكانها..." بكلمات أخرى إزالة حدود إقصائية انعزالية ونصب حدود إقصائية أخرى مكانها. فلا شك ان المشروع الفلسطيني لا زال عالقاً في الأربعينيات من القرن الماضي. ومفاده أن التحرر من المحتل يأتي مكانه كيان وطني إقصائي قامع جديد وبعد خمسين عاماً سنرى ماذا سيحدث. ربما هنالك من يعولون على كيانات شبه فاشية كديار البعث في سوريا والعراق المدمرين.
لا شك أنه تم سلب الفلسطينيين حق السيادة والتحقق على الأرض ضمن الترميزات المتعارف عليها منذ انطلاق مفهوم الدولة ، ولا شك أنه في عام 1948 تم بقر بطن النواة المدنية والحضرية الناشئة في فلسطين ليتحول الفلسطيني إلى مناقض تام ومزمن "للنورماتيف" وتائه أبدي وبشكل عبثي إلى المتحرر تراجيدياً من أغلال الدولة أو استحقاقات مفهوم الدولة.
تطغى على الخطاب الثقافي الجمعي الفلسطيني وخاصة المتكلس محاولات ترميز مكثفة تسعى لإعادة انتاج هوية وطنية. أولاً تعود إلى نقطة الصفر أي 1948 وكأن شيئاً لم يحدث بعد هذه السنة وكأن الزمن توقف وثانياً هي رد فعل دائم ومرضي وعلى مستوى اللا-وعي أيضا للهوية الإسرائيلية، وأحياناً إلى درجة الهوس على نسق مرآة "لاكان."
نحن إذ نعيش في محيط عربي يعج حالياً بتحديات تقصم ظهر مفهوم الهوية الوطنية الجامعة ومفهوم الدولة نحو حالة تفكيكية إبداعية سلباً كان أو إيجاباً. لا يمكننا كفلسطينيين أن ننتظر لنتحقق وطنياً على نسق الأربعينيات على أن نلتحق "على مهلنا" بالركب الربيعي \\ الخريفي سموه كما تشاؤون على مبدأ "يطعمكوا حج والناس راجعة." على الحالة الفلسطينية التي فاتها قطار التحقق الوطني أن تشكل نموذجاً تحررياً ثقافياً\\اجتماعياً شاملاً لا يتجزأ وذلك ليس بالنسخ الذاتي لنموذج المستعمر أو الدولة الوطنية العربية المنهارة بل بمقارعة السلطة القامعة، أي سلطة وهنا بودي الإنهاء باقتباس ما جاء في كتاب الصديق اسماعيل ناشف " العتبة في فتح الإبستيم" في تقديمه لبحثه حيث يقول "الأحجية التي نحن بصددها في هذا البحث من الممكن
صياغتها، على نحو أولي ، كالآتي: إن نجاح الحداثة غير مكتمل، إذ
في كل قصة نجاح هنالك قصة مأساة وفشل، أما من الجانب الآخر،
فهنالك قصة فشل تنجح، باستمرار، في تحقيق فشلها هذا، هي قصة
فلسطين الحداثية. "